«ما تسرعوا، السرعة ما بتفيد. وما بقا تبكّوا إميّاتكم لأنو وجع القلب بيحرق. وللدولة شو بدّي قول غير الله يسامحكم. لو كان ابن وزير أو مسؤول كنتوا عرفتوا تظبّطوا الطريق». هذه رسالة والدة الشابة ساندريلا بو عساف، بعد 6 سنوات على وفاتها، في حادث سير على جسر «الكازينو» في أدما. ساندريلا واحدة من مئات، لا بل آلاف الضحايا الذين نخسرهم سنوياً جرّاء الصدامات المرورية في لبنان. والأرقام تنحو صعوداً. فإلى متى التهوّر ومتى تنتهي المتاجرة بملف أرواح السائقين والسائقات؟
البارحة (19 تشرين الثاني) كان اليوم العالمي لإحياء ذكرى ضحايا الصدامات المرورية. وعدد هؤلاء يتخطّى المليون و350 ألف ضحية سنوياً حول العالم. الأرقام بحسب منظمة الصحة العالمية، والملفت أن 90% من الضحايا هم من دول العالم الثالث أو الدول النامية. نعود إلى صرخة والدة ساندريلا التي تلخّص صرخات الكثير من الأمهات. الشابة التي قضت نتيجة السرعة الزائدة، وفق تقرير قوى الأمن، بعدما اصطدمت السيارة بحائط مفرق أدما قبل أن تتدحرج إلى الوادي، لم تكن الوحيدة التي تغادرنا في ذلك المكان. «هذه الطريق خطرة ويجب إزالة الحائط من هناك لأن موقعه غير صحيح. بعد وفاة ساندريلا بفترة قصيرة، تعرّضنا أنا وابنتي وثلاثة آخرون لنفس الحادث وفي نفس المكان. جمعتني المصيبة بشاب فقد خطيبته أيضاً على الطريق ذاتها وبنينا مزاراً هناك، لكن الحوادث المتكرّرة أزالته. كل ذلك وردّ وزارة الأشغال ثابت لا يتغيّر: «لا إمكانية لدينا». لكن لو كانت الضحية ابنة نائب أو وزير أو مسؤول كبير لكانت توفّرت الإمكانيات»، تتحسّر الوالدة.
لا شيء سيعيد ساندريلا، فراشة البيت ورفيقة أمّها، إلى حضن عائلتها. أكان السبب سرعةً أم تلكّؤاً، النتيجة واحدة. لِمَ لا والقضاء أعجز من أن يحاسِب الدولة على تقاعسها في تحديث البنية التحتية للطرقات والاهتمام بالإنارة والتخطيط ووضع الفواصل. ففي ظلّ غياب الأخيرة، يُفترض على السائق أن يقود بتنبّه وحذر... ونقطة على السطر. 21 أيلول ذكرى مؤلمة حفرت في قلب والدة ساندريلا. وغيرها قصص لا تنتهي. لكن كي لا تُحفَر ذكريات أليمة مشابهة في قلوب المزيد من الأمهات، ليس لنا سوى التوعية عنواناً والسلامة القيادية ثقافة. أما القوانين... فلتبقَ تحت رحمة التسويف والفساد حبراً.
البداية مع منسّق أنشطة اليازا في بيروت، سمير سنّو، الذي أشار في حديث لـ»نداء الوطن» إلى أن الاحتفال باليوم العالمي لذكرى ضحايا حوادث المرور جرى للمرّة الأولى في العام 1993 في المملكة المتحدة، بهدف التوعية لا سيّما مع ازدياد أعداد ضحايا السير عالمياً. واعتُمد بعدها مصطلح «الصدامات المرورية» لاختلافه عن مفهوم «حوادث السير». فالحادث قضاءٌ وقدر تتنوّع أسبابه من زلزال أو تسونامي إلى سقوط شجرة وما بينهما. في حين أن الصدامات المرورية، التي تشكّل أكثر من 90% من نسبة الحوادث عالمياً، تنتج عن أخطاء بشرية. وهنا نتكلّم عن الاصطدام بجسم ثابت، كعمود؛ صدْم سيارة لأحد المشاة؛ وتصادُم بين سيارات وغيره. سنّو أسف لأن يكون لبنان أحد أكثر الدول التي تشهد ضحايا سير، عدا عن الإعاقات والجرحى والخسائر المادية المترتبة. «من هنا تعمل اليازا وكافة المنظمات حول العالم على تعزيز الحسّ المروري لدى المواطن وعدم الاستخفاف بمعايير السلامة المرورية، إضافة إلى الجهود التي تبذلها مع المؤسسات الرسمية لإقرار القوانين ذلك لأن التوعية تبقى غير فعّالة ما لم تقترن بِسَنّ القوانين وتنفيذها والمحاسبة على عدم تطبيقها».
عاملان أساسيان، بحسب سنّو، يحولان دون الحدّ من أعداد ضحايا الصدامات المرورية لدينا رغم الجهود المبذولة. الأول يتعلّق بثقافة المواطن، إذ لا شيء يمنع تفادي السرعة وعدم استخدام الهاتف ووضْع حزام الأمان أثناء القيادة، حتى بغياب القانون. لافتاً إلى دور الأهل في التوعية المنزلية لتجنّب وقوع المشكلة. أما الثاني فيربطه بإهمال الأجهزة الرسمية المتعمّد والتي تتحمّل المسؤولية الكبرى لأنها من يملك السلطة. فالحاجة ماسة إلى مدارس تعليم القيادة على غرار دول العالم، حيث يخضع المتبارون للامتحان بوجود مراقبين وعلى الطرقات وبين السيارات. «لم نعد نريد مكاتب سماسرة حيث تُباع دفاتر السوق في ظلّ امتحان سير أقلّ ما يقال فيه إنه «مهزلة». فهذه المدارس تؤهّل السائق ليكون مسؤولاً عن حياته وحياة الآخرين». هذا إضافة إلى السجلّ المروري الذي يجب أن يراعي المعايير العالمية لناحية سحْب النقاط من كل مخالف وبعدها الرخصة وصولاً إلى المنع من القيادة.
نبقى مع سنّو ونسأل عن قانون السير الجديد رقم 243/2012 وأسباب التوقّف عن تطبيقه رغم إقراره في مجلس النواب العام 2012، فيجيب: «بعد سنوات من العمل الدؤوب من قِبَل اليازا وأطراف أخرى، وبسبب عدم تطبيق القانون، تقدّمنا بشكوى إلى مجلس شورى الدولة مناشدين بوضعه حيّز التنفيذ، فجرى تطبيقه في العام 2015 لكن مجتَزءاً، للأسف. رغم ذلك، تراجع عدد ضحايا السير تلك السنة بنسبة 30%، ما يحسم أهمية تطبيق القانون». المفاجأة كانت وقْف العمل بالقانون بعدها ولأسباب مجهولة. نسمع من هنا وهناك أن اتفاقاً سياسياً كان خلف ذلك. وبحسب أوساط مطّلعة، منع قانون السير الجديد إدخال السيارات المستعمَلة إلى لبنان إلّا ضمن الشروط المطلوبة، ما يتعارض مع مصالح المافيات التجارية النافذة. كما حصل خلاف على التعيينات والمراكز كما المحاصصة والاستنسابية. والنتيجة: «تطيير» القانون الجديد والعودة إلى الفوضى المرجوّة على حساب المواطن.
الناس، يقول سنّو، فئتان: فئة تلتزم بالقانون احتراماً للقيم وحقوق الغير؛ وأخرى، وهي الأكثرية في لبنان، لا شيء يردعها بغياب القانون أو بوجوده. هؤلاء يقرّون قانون سير خاصاً بهم ويمارسونه ضاربين عرض الحائط بكافة مرتكزات السلامة المرورية. «حين تقود سيارتك تذكّر أنك تمسك بيدك حياتك وحياة من معك، كما حياة الأشخاص المتواجدين على الطريق. جميعكم لا قانون يحميكم. فدعونا لا نكون سبباً إضافياً للقتل، لأن مصائب لبنان- القاتلة يومياً للشعب- تكفي».
للوقوف عند مفهوم القيادة الدفاعية، توجّهنا إلى نائب رئيس جمعية اليازا في لبنان، أنطوان الحاج. ولفت لـ»نداء الوطن» إلى أن هذا البرنامج يُدرَّس في مدارس تعليم السوق في الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي. غير أنه يقتصر لبنانياً على بعض المحاضرات والدورات التدريبية للشركات التجارية التي تعتمد السائقين، إضافة إلى سائقي باصات المدارس، والجيش اللبناني وقوى الأمن الداخلي. «التدريب على القيادة الدفاعية يعني تدريب السائق على كيفية تجنّب الحادث رغم أخطاء الآخرين. فيصبح قادراً على معرفة بماذا يفكّر السائق الآخر ويتوقّع ما الذي يمكن أن يقوم به». وإذ ذكّرَنا الحاج بأن اليازا منظمة دولية تعمل في 17 دولة وأن كافة الدول تبدي تجاوباً وتعاوناً مميّزين، أعرب عن أسفه تجاه صعوبات تجاوب الدولة اللبنانية معهم على صعيد تلبية الطلبات. فالقيادة الدفاعية تعني القيادة الوقائية، وجزء كبير من اللبنانيين يفتقرون لهذه الثقافة كونهم يقودون بشكل هجومي. وما يفاقم واقع الحال هو تقاعس الدولة عن تنظيم البنية التحتية للطرقات والتخطيط والإنارة كما الإشارات المرورية والضوئية.
حسناً. نسأل لِمَ لا يتمّ إدخال القيادة الدفاعية ضمن المناهج التربوية الحديثة أو كشرط أساسي لنيل رخص السوق؟ «كنا طرحنا على وزارة التربية تنظيم دورات بحسب الأعمار لكن يبدو أنها وضعت الاقتراح في الثلاجة. كانت محاولتنا الأولى في عهد الوزير خالد قباني وحاولنا التواصل مع المدارس منذ ثلاث سنوات، لكن التجاوب لم يكن كافياً. أما في ما خصّ مدارس السوق فهدفها إصدار الدفاتر بطرق ملتوية مقابل حفنة من الأموال غير آبهة بالمعايير الأخرى»، يجيب الحاج. في الإطار نفسه، أشار مؤسس اليازا، الدكتور زياد عقل، إلى الجهد الكبير للمركز التربوي وعمله على بعض المواد لإدخالها في المناهج، غير أن المشكلة تكمن في تقاذف المسؤوليات بين كافة القطاعات، من وزارة الأشغال إلى البلديات فمجلس الإنماء والإعمار وقوى الأمن وغيرها. أما الحلّ الوحيد للسلامة المرورية، فهو أن تتحمّل كل جهة المسؤولية التي تقع على عاتقها.
الأرقام تتخبّط
نسأل أيضاً عن مدى دقة الأرقام والإحصاءات، فيوضح لنا الناشط في اليازا، فادي الصايغ (الذي يرصد يومياً أعداد الحوادث والضحايا والجرحى)، أن الاختلاف كبير بين أرقام الصليب الأحمر والدفاع المدني والتحكّم المروري. «للأسف لا مؤسسات رسمية في لبنان تعمل على الإحصاءات والأرقام، كما أن ليس ثمة قاعدة بيانات، وفي حال وُجدت تكون خاطئة. لكن، رغم الفروقات، الأرقام كافية لتدلّل على درجة خطورة واقع السلامة المرورية في لبنان». فالمحاور الثلاثة التي تؤثر على الحوادث- المركبة، السائق والطريق- جميعها ليست سليمة. أضف إلى ذلك الأعداد الخجولة لعناصر مفارز السير كما الدرّاجين والدوريات، وحصر تقنية الرادار ببيروت ومحيطها.
اليازا تُفعّل نشاطاتها هذا الأسبوع. فإضافة إلى نشاط يوم السبت الماضي حول حوادث السير في لبنان وسُبل الوقاية الذي أقيم في زحلة، ستنظّم جولة توعوية على المدارس والجامعات. كما تسعى للتعاون مع الأشخاص المؤثرين اجتماعياً وعددٍ من السياسيين ورجال الدين لإدخال التوعية ضمن البرامج الفنية والسياسية وحتى ضمن الخطب والعظات الدينية. فعن الخطب والعظات، على ضوء ما سمعناه، قد لا يبقى لنا فعلاً سوى التضرّع للسماوات.
كارين عبد النور -نداء الوطن