الأحد الماضي احتفلت الطوائف المسيحية التي تعتمد التقويم الشرقي، بقيامة السيد المسيح. وبفارق أكثر من شهر، كانت الطوائف التي تعتمد التقويم الغربي قد احتفلت بالمناسبة نفسها، أحد القيامة. هذا الواقع لطالما شغل المسيحيين عموماً والقيّمين على الكنيسة الواحدة، وأغاظ المؤمنين المتمنين توحيد العيد، وغير الواقعين على أسبابٍ جوهرية تجعل هذا الجرح ممتدًا في هيكل الكنيسة جسد المسيح طيلة قرون من الزمن.
هذا الجرح الواقع في القرن الخامس عندما حدث الانشقاق الكبير بين الشرقيين والغربيين بنتيجة مجمع خلقيدونيا (عام 451)، حيث أصبحت كنائس الشرق تحت قيادة كنيسة الإسكندرية وتُعرَف بالكنائس "الأرثوذكسية"، وكنائس الغرب تحت قيادة كنيسة روما وتُعرَف بالكنائس الكاثوليكية.
وللتذكير والإشارة، يومها رفض المعارضون لهذا المجمع أن يُنسب اصطلاح "طبيعتين" إلى الرّب يسوع المسيح، إذ كان اصطلاح طبيعة يوازي عندهم "شخص"، وبالتالي لا يمكن بالنسبة إليهم أن يكون الرّب يسوع شخصين متّحدين مع بعضهما البعض، وبخاصةً أنّ مقولة القدّيس كيرلس (412-444) بأنّ هناك "طبيعة واحدة للإله الكلمة المتجسد"، كانت سائدة بقوّة.
ثمّة عوامل عديدة أخرى أدّت إلى هذا الإنشقاق، إذ بالإضافة إلى الخلاف اللغويّ كانت هناك عوامل إتنيّة وسياسيّة، عدا عن النزعة الإستقلاليّة التي كانت سائدة في المناطق الأرمنيّة والسريانيّة والإسكندرانيّة عن الإمبراطوريّة الروميّة. كما يمكن إضافة العوامل التي نتجت عن المجمع الذي عُقد في أفسس عام 449. وقد أكدّت فيه الكنيسة إيمانها بوحدة شخص المسيح وبـ"الطبيعتين" فيه: الإلهيّة الكاملة والبشريّة الكاملة.
وما لا ينساه المسيحيون، بل يحتفلون به، أن جسد المسيح أصيب يوم الجمعة العظيمة وجلجلة الصلب، بخمسة جروح. وبعد القيامة بـ 451 عامًا أصيب هذا الجسد بالجرح السادس، وهو مستمرٌّ مؤلمٌ نازفٌ على مدى 1574 عامًا. فهل أصيبت الكنيسة حقًّا بما يُعرَف بالـ"ستيغماتا"، أي بالجرح السادي في جسد المسيح؟. (والـ"ستيغماتا" هي كلمة إغريقية قديمة στίγματα، تعني العلامة أو الوَسم. وقد باتت مصطلحًا مسيحيًّا، يعني ظهور جروح جسدية في أماكن تُماثِل أماكن جروح صلب المسيح بالحربة في وسطه، وبالمسامير في يديه ورجليه).
نعم الكنيسة واحدة كما الجسد الإلهي واحد، والجرح قائم كما الجروح السابقة ثابتة. وقد كتب بولس الرسول إلى رومية: "هكذا نحن الكثيرين جسد واحد في المسيح وأعضاء بعضاً لبعض كل واحد للآخر". كما كتب للكورنثيين: "فإننا نحن الكثيرين خبز واحد جسد واحد". ولأفسس يقول: "جسد واحد".
كما أن العالِم تشارلز ماكنتوش شبّه وحدة جسد المسيح بسلسلة ممدودة من جانب النهر إلى الجانب المقابل وتغمرها المياه في الوسط. يرى الناظر إليها، طرفيها من هنا ومن هناك ولا يرى الوسط، فيحسبها مقطوعة. ولكنها في الواقع واحدة متصلة متكاملة. ويقول: "هكذا كنيسة المسيح كانت تُرى في البداية كوحدة واحدة، وسترى في النهاية وحدة واحدة، وإنها لواحدة في نظر الله الآن ولو كانت أعين البشر لا تراها".
أهميّة وحدة الكنيسة إذن ليست شعاراً ولا شعراً، ويجب ألا تقتصر على رفع الصلوات، فلن تتوحد الكنيسة ما لم نتوحّد نحن في النظرة والغوص المشترك إلى الجوهر الواحد. فالوحدة هي جوهر الكنيسة بذاته، وتتم بالنظر إلى ما ينظر إليه الله الواحد. وبإلقاء الحراب، التي تزيد خاصرته نزفًا بجرح ظاهر لا يحتاج إلى توما آخر للتثبّت منه وإثباته.
ولإتمام ذلك علينا السؤال: لماذا نحن كنيسة أصلاً؟ ولماذا نحن متجسّدون في المسيح إذا لم يكن همّنا واحدًا، وهدفنا واحدًا، ورجاؤنا واحدًا، وأعيادنا واحدة، وكنيستنا واحدة هي السيد المسيح؟ والسؤال الآخر: هل الخلاف هو حقاً في جوهر العقيدة، أم في الميل البشري إلى التمايز؟ وبما أن الإنسان لم يتغيّر ببشريِّته هذه، فإن الوحدة لن تتحقّق. ولكي تتحقّق الوحدة علينا أن نخرج من الرغبة في التمايز إلى الحب في الوحدة، أي حب الوحدة بذاته، المتجسّد في حب المسيح ووحدة جسده المتمثّلة بوحدة كنيسته!
ويبقى الرجاء. وإنَّ رجاءنا لعظيم وإيماننا يقيم الأموات وينقل الجبال. وبما أن المسيح صُلِب بجسد إنسان كامل وقام من الموت بإرادة إله كاملة، وبما أن الكنيسة هي جسد المسيح وإرادته، فهي قائمة حتمًا من هذا الجرح بقوة راعيها وإيمان أبنائها، ولو بعد حين.. فتتمّ وصية الرب المعلم: "كونوا واحدًا كما أنا والآب واحد"!
موقف البلد