لم يكن انتخاب الرئيس جوزيف عون حدثًا ديمقراطيًا، بل محطة مفروضة على الطبقة السياسية تحت ضغط خارجي مباشر. فبعد ثلاث سنوات من الشلل، أُجبرت الكتل النيابية على الحضور، وصوّتت كما أُُملِيَ عليها، لا كما أرادت. وبذلك لم يولد العهد الجديد من رحم إرادة وطنية، بل من تسوية مفروضة هدفها منع الانفجار لا بناء الدولة.
في هذا السياق، جاءت حكومة نواف سلام كامتدادٍ منطقي لتلك التسوية، فهي لا تعبّر عن رؤية موحدة، بل عن تركيبٍ متوازن بين تناقضات المجلس نفسه: حصص تُرضي الكتل النيابية، وأسماء تُرضي الخارج، وبرنامج فضفاض لا يملك أدوات التنفيذ. الحكومة هنا ليست سلطة تنفيذية بقدر ما هي مرآة للعجز التشريعي والسياسي الذي يعيشه البرلمان.
المجلس النيابي، الذي كان يُفترض أن يكون مركز القرار الوطني، فقد تدريجيًا استقلاله ودوره. فحين تُفرض عليه التسويات من الخارج، وتُدار جلساته وفق توازنات إقليمية لا وطنية، يصبح سلطة منزوعة الإرادة. ما جرى في انتخاب الرئيس، وما تبعه في تشكيل الحكومة، يؤكد أن النظام اللبناني لم يعد ينتج قراراته بنفسه، بل ينتظرها كتعليمات مغلّفة بلغة التوافق.
وعوض أن يكون هذا المجلس شريكًا في ورشة الإصلاح التي وعد بها العهد الجديد، انكفأ إلى موقع المتفرج أو المزايد. فالتشريعات المطلوبة لإنقاذ الاقتصاد لم تُقرّ، والقوانين التي تضمن استعادة أموال المودعين ما زالت عالقة في دهاليز اللجان. أما النقاش العام، فغالبًا ما ينحصر في بيانات سياسية أو مشاهد صوتية موجهة للإعلام. كأن البرلمان تحوّل إلى استديو مناقشات سياسية لا مؤسسة تُنتج قوانين.
في المضمون، لم ينجح المجلس حتى بعد انتخاب الرئيس في الخروج من دائرة الفراغ. صحيح أن الشغور الرئاسي انتهى، لكن الشغور الفعلي في القرار الوطني ما زال قائمًا. فالسيادة السياسية اليوم لا تُقاس بوجود رئيس أو حكومة، بل بقدرة المؤسسات على اتخاذ قراراتها بحرية. وهذه الحرية غابت عن المجلس منذ أن تخلّى عن دوره كسلطة رقابة ومساءلة، وقبل أن يتحوّل إلى مساحة مساومة دائمة بين الولاءات الداخلية والخارجية.
أما على مستوى حياة المواطنين، فلا جديد يُذكر سوى استمرار الانهيار بأشكال أكثر تهذيبًا. الأسعار ما زالت تنفلت، والقدرة الشرائية تتآكل، والخدمات الأساسية لم تتحسن إلا بالرمزيات. كل ذلك يحدث فيما البرلمان يكتفي بتدوير الخطابات وتكرار الشعارات، كأنّ دوره هو تبرير الفشل لا معالجته.
إنّ المجلس النيابي في عهد الرئيس جوزيف عون وحكومة نواف سلام لم يستعد بعد موقعه الطبيعي في الدولة، بل يبدو وكأنه مجلس إداري لتصريف التسويات لا مجلسًا تشريعيًا لصياغة السياسات. فالتوازن الذي فرض انتخاب الرئيس هو نفسه الذي يشلّ الحياة السياسية، ويمنع بروز إرادة وطنية مستقلة.
بهذا المعنى، ما نعيشه ليس بداية عهد جديد بقدر ما هو استمرار للأزمة بثوبٍ أكثر انضباطًا. لقد تغيّر رأس الدولة، لكن لم تتغير القواعد التي تحكمها. وما دام المجلس النيابي خاضعًا لمنطق الإكراه الخارجي والتنازع الداخلي، فكل حكومة ستبقى انعكاسًا لأزمته لا حلًّا لها.
إن لبنان لا يحتاج اليوم إلى مجلس يساير التسويات، بل إلى برلمان يواجهها؛ لا إلى نواب يتناوبون على الخطابات، بل إلى مشرّعين يملكون الشجاعة لاستعادة القرار الوطني من يد الخارج والداخل معًا. فالدولة لا تُبنى بالأوامر، بل بالإرادة. وهذه الإرادة، حتى اللحظة، ما زالت غائبة عن مجلسٍ فقد صوته ثم فقد نفسه.
المحامي يوسف بهاء الدويهي | أخبار البلد
