قد لا يكون موقف رئيس الحكومة نواف سلام وصل إلى حد الإعتكاف الكامل، لكنه بلغ بلا شك حد إفهام من عليه أن يفهم، أن ما حصل مع مسألة "صخرة الروشة" غير مقبول، وأن الإمتناع عن تطبيق قرار حكومي لا يصح مهما كانت التبريرات. وبات ثابتًا أن التبريرات التي أعطيت لعدم تنفيذ القرار كانت أشد سوءًا من الإمتناع عن تطبيقه. حصلت بعد ذلك توقيفات أو استدعاءات، لكنها لم ترقَ إلى مستوى ما حصل ولن تصلح ما أفسده ما يشبه الدهر!
ثمّة من اعتقد أنّ هذه الحادثة هي التي خلقت شرخًا بين أركان الحكم، لكن في الواقع ما حصل هو العكس، أي أن الشرخ هو ما أدى إلى ما حصل في يوم الروشة. هناك تباين بدأ يظهر واضحًا في أداء أركان الحكم، وكلٌ على خلفية مغايرة عن الآخر. وفيما بدا رئيس الجمهورية غير ضاغط لتنفيذ قرارات الحكومة بشأن حصرية السلاح، يظهر رئيس الحكومة وحيدًا بهذا المضمار. وحيدًا بمعنييها: الرسمي حيث تراجع الآخرون واستمرّ هو حاملاً هذا اللواء، والخطة التي قدّمها الجيش إلى مجلس الوزراء خير دليل على هذا التراجع. والمعنى الواقعي حيث بدا رئيس الحكومة وحيدًا من غير داعمين باستثناء قلّة وبينهم من دعمه على خلفية طائفية لا وطنية.
وبغض النظر عن أسباب التباين المتنامي، فإن خطورته هي بانعكاسه القاتل على انطلاقة العهد كما على نظرة العالم إلى لبنان. فسقوط آخر معاقل الثقة فيه، وآخر الفرص ومبادرات الدعم، مع سقوط هيبة الدولة، لا تقتصر تداعياته على المواقف، بل تخترق بنية الدولة ومستقبلها. إذ، وبنظر العالم، كيف لدولة عاجزة عن تطبيق قرارات شرعيتها تجاه فريق خارج عنها، أن تُطبّق قرارات الشرعية الدولية بشأن حصرية السلاح تجاه الفريق المخالف نفسه؟
أما ذريعة عجز الدولة عن مواجهة "حزبالله" حفاظًا على السلم الأهلي فساقطة ومردودة لأنها تواجهه جنوب الليطاني، لكنها تراعيه شماله، وترعى مخالفاته القوانين في بيروت والمناطق. بل أكثر من ذلك تقوم بالتنسيق مع أعضائه وتنال على ذلك منهم الشكر والثناء. وكذلك ذريعة أن على الجيش حماية المواطنين والسلم الأهلي هي أكثر سقوطًا لأنه لطالما عامل المواطنين وتصرّف تجاههم في ظروف سابقة ومناطق أخرى، بطرق مختلفة. وهو ما حمى السلم الأهلي عندما انفلش الكفاح المسلح الفلسطيني واقتتل اللبنانيون وانهار كل شيء.
صحيح أنَّ على القوى الأمنية حماية المواطنين والسلم الأهلي، لكن بموجب القوانين النافذة والقرارات الصادرة عن السلطة السياسية لا برسم سياسة خاصة بها وتنفيذها بحسب أجندتها ومصالحها. فبموجب هذه السياسة المتخاذلة، لم يعد لبنان على رأس الأولويات بالنسبة لأميركا إذ إن ملفات عدة تقدّمت عليه خصوصًا ملفّي غزة وسوريا. والاندفاعة الدولية بشأن لبنان باتت متراجعة وأقل حماسة. وهناك، كما يقول ديبلوماسي أميركي من أصل لبناني، عدم رضى على السلطة في لبنان إضافة إلى خشية ظاهرة من تجدّد الحرب... وما لنا من مسار أحداث غزّة منذ الثامن من أكتوبر 2023 حتى اتفاق ترامب، إلا أوضح دليل وخارطة طريق عمّا سيكون عليه الوضع اللبناني في المرحلة المقبلة.
كل ذلك يحصل وسط تخاذل السلطة وبسببه وتبريرها هذا التخاذل، ما يشي بنيّتها الاستمرار فيه. فهل عليها مثلاً أن تتعامل مع "حزبالله" كطائفة شريكة أم كمنظمة خارجة على القانون؟ هل عليها أن تتعامل مع ممارساته المقوِّضَة للدولة على أنها حرية رأي يجب حمايتها، أم مخالفات يجب منعها؟ العالم ينتظر ويراقب ونحن نتلهّى بالكيديات الصغيرة وبالتهانئ والتبريكات النازلة في غير زمانها ومكانها. الشرق الأوسط حمل عتاده ومشى طريق الإنتقال إلى حاله الجديدة، ولبنان (إلى الآن) ليس في ركب القافلة ولم يحزم لا أمره ولا عتاده بعد، فيما التغيير بات على السكة والقافلة تسير ولن تبدّل أصوات النشاذ مسارها ولا مواقيت الوصول!
سيمون سمعان | رئيس التحرير
