منذ مطلع القرن الحادي والعشرين، تتأرجح الديمقراطية في الشرق الأوسط بين طموح الشعوب وتصلّب الأنظمة، بين وعود الإصلاح وضغوط الصراعات الإقليمية. غير أنّ الحرب الإسرائيلية المفتوحة في المنطقة، والتدخلات المتعددة من الغرب والشرق، أعادت رسم المشهد السياسي على نحوٍ يجعل من فكرة “الديمقراطية” نفسها أداة نزاع لا هدفًا جامعًا.
ما يجري اليوم في غزة وجنوب لبنان وساحات النفوذ الإيراني ليس مجرد مواجهة عسكرية، بل امتحان للأنظمة العربية التي لطالما استخدمت شعار “المقاومة” لتبرير انغلاقها السياسي. فالحرب مع إسرائيل، رغم عدالتها من زاوية القضية الفلسطينية، شكّلت ذريعة لدى كثير من الأنظمة لتجميد الإصلاحات بحجة “أولوية الأمن القومي”. وهكذا وُلدت ديمقراطية مشوّهة: انتخابات بلا تداول للسطة، برلمانات بلا محاسبة، ومجتمعات مدنية خاضعة لرقابة الأجهزة.
منذ الحرب على العراق عام 2003 وحتى الصراع السوري والإيراني–الإسرائيلي المستتر، لم تعد حدود الدول العربية كافية لضبط التوازنات. واشنطن، طهران، أنقرة، وموسكو تتقاسم النفوذ عبر أدوات محلية: ميليشيات، أحزاب دينية، أو حركات احتجاجية.
في لبنان، مثلًا، تحوّل النظام الديمقراطي التوافقي إلى ساحة تصفية حسابات بين هذه القوى. فبينما يرفع اللبنانيون شعار “الدولة المدنية”، يتحكم الخارج بمسار الدولة من خلال أدوات التمويل أو السلاح أو العقوبات. وكل محاولة للإصلاح تصطدم بجدار الولاءات المتناقضة: واشنطن تضغط لعزل حزب الله، طهران تدعم نفوذه، والخليج يشترط الاستقرار السياسي مقابل المساعدات.
لبنان، الذي لطالما قُدّم كنموذج ديمقراطي فريد في العالم العربي، يعيش اليوم أزمة هوية سياسية أكثر منها اقتصادية.
البرلمان منتخب لكن معطّل، الحكومة قائمة لكن عاجزة، والرئاسة عندما لا تكون شاغرة تكون محاصرة، فيما الشارع موزّع بين انتماءات مذهبية وإقليمية. فالحرب الإسرائيلية على لبنان، والتوتر الدائم في الجنوب، والمسيّرات الاسرائيلية في الأجواء، جعلت مفهوم “السيادة” نسبيًا: إذ كيف يمكن لديمقراطية أن تزدهر في ما القرار الأمني خارج الدولة، والقرار المالي مرتهن للمساعدات؟
رغم ذلك، لا يمكن إنكار أن الحراك الشعبي منذ 2019 خلق وعيًا سياسيًا جديدًا، تجاوز الانتماءات التقليدية. إلا أن هذا الوعي اصطدم بعنف منظّم من السلطة القائمة وبشبكات المصالح الدولية التي تفضّل “الاستقرار الضعيف” على “الإصلاح المجهول”.
في ظل الحروب الدائرة، تحوّلت الديمقراطية في الشرق الأوسط إلى خطاب سياسي أكثر منها ممارسة تلقائية. الغرب يدعم الديمقراطية حين تخدم مصالحه، ويغضّ الطرف عن القمع حين تضمن الأنظمة الاستقرار أو النفط.
وهكذا أصبحت صناديق الاقتراع جزءًا من لعبة النفوذ: في العراق تُدار عبر التوازن الإيراني–الأمريكي، في تونس خضعت للعودة السلطوية باسم “السيادة”، وفي لبنان أصبحت الانتخابات وسيلة لتجديد الطبقة نفسها.
ثمة مؤشرات تدعو للتفاؤل النسبي. فالأجيال الجديدة، سواء في بيروت أو طهران أو عمّان، لم تعد تخاف من السؤال، ولا تكتفي بالشعارات. التكنولوجيا والإعلام البديل كسرت احتكار الخطاب الرسمي، والوعي الشعبي لم يعد يُقاس بالانتماء الطائفي وحده، بل بالمصلحة الوطنية.
لبنان، برغم هشاشته، لا يزال يمتلك فرصة فريدة: أن يتحوّل من ساحة نفوذ إلى مساحة حوار إقليمي، شرط أن تُستعاد الدولة من أيدي الخارج، وأن يُعاد تعريف الديمقراطية كحقّ للمواطن لا كترف سياسي.
الديمقراطية في الشرق الأوسط اليوم ليست ضحية الشعوب بل ضحية الحروب والمصالح. كل حرب مع إسرائيل تُعيد المنطقة عقودًا إلى الوراء، وكل تدخل خارجي يُعمّق هشاشة الداخل. وحدها الإرادة الوطنية – المستقلة عن المحاور – قادرة على تحويل ديمقراطية الواجهة إلى ديمقراطية الفعل، حيث لا يكون المواطن مجرد ورقة إقتراع بل شريكًا في القرار.
المحامي يوسف بهاءالدويهي | أخبار البلد
