علوم وتكنولوجيا

الذكاء الاصطناعي التركيبي: الآلة تتجاوز الإنسان ولبنان ما زال في نقطة الصفر



يعيش العالم اليوم على إيقاع ثورة فكرية وتكنولوجية غير مسبوقة، تجاوزت حدود الذكاء الاصطناعي التقليدي (Artificial Intelligence) الذي اعتدنا عليه، لنصل الى حقبة جديدة يقودها ما يُعرف بالذكاء الاصطناعي التركيبي (Synthetic Intelligence)، وهو شكل متقدّم من الذكاء الصناعي الذي لا يكتفي بمحاكاة قدرات الإنسان، بل يسعى إلى ابتكار أفكار جديدة، واقتراح حلول لم تُطرح بعد، وبناء معارف لم تُخزَّن في تكنولوجيا الانترنت مسبقًا. وفي ذلك نقلة نوعية من "الأداة" إلى "العقل"، من التنفيذ إلى المبادرة، ومن المساعدة إلى المشاركة في صنع القرار.
ما يميّز هذا الذكاء الجديد أنّه لم يعد ينتظر الأوامر، بل يخلق قواعده الخاصة ويعيد إنتاج بياناته، ما يجعله قادرًا على رسم سيناريوهات واتجاهات معرفية وقتاليّة واقتصادية وعلمية دون تدخل بشري مباشر. ومع هذا التحوّل الجذري، يبرز السؤال الأخطر: من يملك القرار الأخير؟ ومن يتحمّل مسؤولية أفعال "عقل الكتروني" قادر على التعلّم الذاتي واتخاذ المبادرات؟ وهل يستطيع الفكر البشري ان يبقى مسيطرًا عليه؟
يتحرّك العالم اليوم بخطى سريعة بهدف تنظيم عمل واخلاقيات الذكاء الاصطناعي. من الاتحاد الأوروبي الذي أقرّ قانونًا خاصًا به، إلى الصين والولايات المتحدة اللتين تتسابقان لوضع الأطر الأخلاقية والقانونية، لأن كل ابتكار غير مؤطّر قد يتحوّل إلى خطر وجودي على الإنسان.
لكن في المقابل، يقف لبنان في موقع المتفرّج. لا استراتيجية وطنية للتحول الرقمي بدأ تنفيذها، ولا خطة حكومية واضحة لتنظيم استخدام الذكاء الاصطناعي في القطاعات الإنتاجية والإدارية والتعليمية. بل إنّ الدولة اللبنانية لم تُنجز بعد التحول الرقمي الأساسي في مؤسساتها الا بمبادرات فردية ومحدودة، ولم تصدر الا تشريعات بسيطة لا تُواكب هذا التقدّم العلمي الهائل. أما عن "الذكاء الاصطناعي التركيبي"، فربما لم يسمع به أحد في دوائر القرار بعد!
انّ عدم تطبيق الاستراتيجية الوطنية للتحول الرقمي 20-30 في لبنان لا يعني فقط التأخّر التقني، بل يشير إلى خلل ثقافي ومعرفي في بنية الدولة، ويتركها خارج خريطة المنافسة العالمية والاستثمار الآمن في التقنيات الجديدة. هذا وقد أظهرت تجارب الدول المتقدّمة أن التحوّل الرقمي لم يعد ترفًا، بل ركيزة أساسيّة من ركائز التنمية والتطور والسيادة الحديثة.  والدولة التي لا تملك أدوات الذكاء الاصطناعي اليوم، ستصبح رهينة لمن يملكها! وبالتالي، فإنّ السؤال لم يعد "هل سوف نحقق التحول الرقمي في لبنان؟" أو "هل سوف نستخدم الذكاء الاصطناعي؟"، بل "كيف يمكننا أن نحكم الآلة ونوجّهها بما يخدم الوطن والإنسان؟".
إنّ ما نحتاجه في بلدنا اليوم ليس انبهارًا بالظاهرة، ولا خوفًا منها، بل إرادة سياسية ومؤسسية واضحة تضع المسؤولية على كاهل الدولة اللبنانية التي يجب أن تتحرّك وتسعى سريعًا الى إنشاء هيئة وطنية فاعلة لتنظيم الذكاء الاصطناعي والتحوّل الرقمي، وتضع تشريعات تضمن الاستخدام الأخلاقي والمسؤول للتقنيات الذكية، وتدمج مفاهيم الذكاء الاصطناعي التقليدي والتركيبي في التعليم والبحث العلمي، وتشرك الجامعات ومراكز الأبحاث في بلورة رؤية وطنية تضمن استقلال القرار الرقمي اللبناني. فالذكاء الاصطناعي التقليدي والتركيبي ليس مستقبلًا بعيدًا، بل واقعًا يفرض نفسه. وإن لم نتحرك اليوم، سنجد أنفسنا غدًا في عالم يُعاد تشكيله من دون أن يكون للبنان مكان على خريطته الرقمية اقتصاديًّا وثقافيًّا وسياسيًّاّ!

البروفسورة وديعة الأميوني
أستاذة جامعيّة وباحثة اجتماعيّة